فصل: فصل في أسرار ترتيب السورة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة الذاريات:
بدأت سورة الذريات بعدة أقسام تحتاج إلى التأمل، أولها القسم بالرياح، فإننا لو حُرمنا الهواء اختنقنا ومتنا. وقد تساءلت عما يملأ صدرى من هذا الهواء: هل نتبادله نحن البشر؟ هل ما تخرجه رئتاى من هواء يذهب إلى آخرين؟ إن تيارات الهواء تصعد وتهبط فوق طهر الأرض، ثم تهب الرياح فتذهب بها شرقا وغربا وشمالا وجنوبا! وقد يذهب ما ملأ صدرى منها إلى شخص آخر في أوربا أو أسيا!! من يعلم ذلك ويحدده ويتابعه؟ الله وحده! ثم إن هذه الرياح تحمل السحب التي ينتظرها العطاش من البشر والدواب، أو تنتظرها الأرض الميتة لتحيا. ونحن في مصر لا نعول على الأمطار في معايشنا. إن النيل يحمل لنا ما يروينا، لكن من أين؟ الأمطار الرسمية القادمة من المحيط الهندى تهمى سيلا بعد سيل، ويتصل عبابها شاقا طريقه من وسط إفريقية إلى شمالها، فنشرب في القاهرة والإسكندرية من هذا الغيث الذي قطع آلاف الأميال إلى أفواهنا.. إن الهواء الرقيق الخفيف يحمل هذه المقادير من المياه التي يجرى بها نهر كبير! {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع}.
لقد كنت أعجب من أن الهواء في إطارات السيارة يحمل أثقالا باهظة، حتى التفت إلى أن أنهار الأرض يحملها هذا الهواء سحُبا قبل أن تنزل إلينا مطرا. وقد أقسم الله بالرياح على أن الجزاء حق، وأن البشر مسئولون بعد قليل عما قدموا وأخّروا! ثم جاءت بعد ذلك أقسام أخرى {والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف}. إن آفاق السماء محبوكة لا تسيب فيها ولا فوضى، وما يسبح فيها يتم وفق نظام رتيب.
وندع السماء إلى الأرض {وفي الأرض آيات للموقنين}. قلت: ما أثقلنا على ظهر الأرض، وما أثقل الأرض نفسها في الفضاء. ومع ذلك تنطلق بما تحمل لا تنوء ولا تزيغ! {وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}. إن جسم الإنسان جهاز بالغ التعقيد، سبحان من خلقه وصوره وشق فيه سمعه وبصره. ومع ذلك يجلس على أريكته امرؤ مغرور يقول: لا إله والحياة مادة! إذا كانت مادة، فمن بناها وضبطها ووضع لها نظمها؟ إننا ندع وسط السورة لننظر في خواتيمها جواب هذا التساؤل {والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}. إن الملحد بغبائه وغفلته يوشك أن تدهمه كارثة تودى به، ولذلك يقول الله له ولمثله {ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين}. لكن الكافرين أوتوا من سلاطة اللسان بقدر ما حرموا من نعمة التوفيق؟ فهم يصفون الدعاة إلى الله بالسحر والجمود والتخلف العقلى! {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون}. وطغيانهم هو الذي أودى بهم بعد مرحلة من الابتلاء. وقد وصفت سورة الذاريات في وسطها مصاير عدد من هؤلاء الأقوام، وبدأت بحديث عن ضيف إبراهيم المكرمين، وهو حديث يكشف عن سوء فهم الكتابيين للألوهية، وتأثر عقولهم بالفكر الوثنى! لقد كان ضيوف إبراهيم عددا من الملائكة جاءوا بأنباء سارة عن أن الله سيرزقه بغلام عليم، كما أخبروه أن الله سيدمر القرى النجسة التي عجز لوط عن إصلاحها لكن العهد القديم ساق القصة على نحو آخر، فذكر أن الله هو الذي تناول الغداء مع إبراهيم، وأن إبراهيم قدم لرب العالمين مائدة فاخرة عليها عجل مشوى وخبز، وأن الله أكل حتى امتلأ!! هذا ما ذكره الكتاب المقدس.
أما القرآن المتهم عند أهل الكتاب، فقد تنزه عن هذا السياق جملة وتفصيلا! لأنه لم يقدر الله حق قدره...!! يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن! وتحدثت السورة عن فرعون وجيشه، وكيف استباحوا بنى إسرائيل {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم}- ارتكب ما يلام عليه- لقد رمى في البحر كما تلقى النواة، ما كلف القدر جهدا، وما بكت عليهم السموات والأرض.. وذكرت عاد التي كانت تتساءل: من أشد منا قوة؟ {وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم}. لقد بادوا دون مقاومة.. وكذلك غيرهم من القرى الظالمة، إن الله بعث إليهم من يعرفهم به ويذكرهم بلقائه ويطالبهم بحقوقه، بيد أنهم عتوا واستكبروا فأبيدوا.. إن الله لا يحتاج إلى خلقه، إنه عنهم غنى، وعندما يكلفهم بعبادته، فما يكلفهم إلا شكر نعمته والشعور بعظمته والفقر إليه، فهل هذا تكليف معنت؟ {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين}. على أن الكنود الذي يبديه الناس نحو ربهم لن يمردون مؤاخذة، سيلقون ما لقيه آباؤهم الأقدمون.
{فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون}. إنه عقاب واحد ومصير مشترك {فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة الذاريات:
أقول: لما ختمت (ق) بذكر البعث، واشتملت على ذكر الجزاء، والجنة والنار، وغير ذلك من أحوال القيامة، افتتح هذه السورة بالإقسام على أن ما توعدون من ذلك لصادق، وإن الدين- وهو الجزاء- لواقع ونظير ذلك: افتتاح المرسلات بذلك، بعد ذكر الوعد والوعيد والجزاء في سورة الإنسان. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 14):

قوله تعالى: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قول مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
(بسم الله) المحيط بصفات الكمال فهو لا يخلف الميعاد (الرحمن) الذي عم الخلائق بنعمة الإيجاد (الرحيم) الذي خص من اختاره بالتوفيق لما يرضاه من المراد.
لما ختم سبحانه ق بالتذكير بالوعيد، افتتح هذه بالقسم البالغ على صدقه، فقال مناسبًا بين القسم والمقسم عليه: {والذاريات} أي الرياح التي من شأنها الإطارة والرمي والتفريق والإذهاب، وأكد ذلك بقوله: {ذروًا} أي بما تصرفها فيه الملائكة، قال الأصبهاني: الرياح تحت أجنحة الكروبيين حملة العرش، فتهيج من ثم فتقع بعجلة الشمس ثم تهيج عن عجلة الشمس فتقع برؤوس الجبال، ثم من رؤوس الجبال تقع في البر، فأما الشمال فإنها تمر تحت عدن فتأخذ من عرف طيبها فتمر على أرواح الصديقين، ثم تأخذ حدها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس، وتأتي الدبور حدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل، وتأتي الجنوب حدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس، وتأتي الصبا حدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات نعش، فلا تدخل هذه في حد هذه ولا هذه في حد هذه.
ولما كانت غاية الذرو التهيئة للحمل، قال مسببًا ومعقبًا: {فالحاملات} أي من السحب التي فرقت الريح أصلها وهو الأبخرة، وأطارته في الجو في جهة العلو ثم جمعته، فانعقد سحابًا فبسطه مع الالتئام فحمله الله ما أوجد فيه من مراده من الماء والصواعق وغيرها {وقرأ} أي حملًا ثقيلًا، وقد كان قبل ذلك لا يرى شيء منه ولا من محموله، فتحققوا قدرة الله على كل ما يريد وإن لم تروا أسبابه، ولا يغرنكم بالله الغرور.
ولما كان الحمل إنما هو الوضع في الأماكن التي يراد ضرها أو نفعها، وكان سير الغمام بعد الحمل في ساحة الجو وباحة الأفق من غير ممسك يرى أدل على القدرة، ولاسيما إذا كان مع الجري الذي يضرب به لسرعته المثل، وكذا جري السفن في باحة البحر بعد ثقلها بالوسق قال: {فالجاريات يسرًا} أي جريًا ذا سهولة.
ولما كان في غاية الدلالة على تمام القدرة بغريق محمولها في الأراضي المجتاحة ولاسيما إن تباعدت أماكن صبه ومواطن سكبه، وكان ذلك التفريق هو غاية الجري المترتب على الحمل المترتب على الذرو، قال مسببًا معقبًا مشيرًا بالتفعيل، إلى غرابة فصلها لقطراتها وبداعة تفريقها لرحمتها من عذابها، وغير ذلك من أحوال الجاريات وتصريف الساريات: {فالمقسمات} أي من السحب بما تصرفها فيه الملائكة عليهم السلام، وكذا السفن بما يصرفها الله به من الرياح اللينة أو العاصفة من سلامة وعطب وسرعة وإبطاء، وكذا غيرهما من كل أمر تصرفه الملائكة بين العباد وتقسمه.
ولما كان المحمول مختلفًا كما تقدم، قال جامعًا لذلك: {أمرًا} أي من الرحمة أو العذاب، قال الرازي في اللوامع: وهذه أقسام يقسم الله بها ولا يقسم بها الخلق لأن قسم الخلق استشهاد على صحة قولهم بمن يعلم السر كالعلانية وهو الله تعالى، وقسم الخالق إرادة تأكيد الخبر في نفوسهم فيقسم ببعض بدائع خلقه على وجه يوجب الاعتبار ويدل على توحيده، فالرياح بهبوبها وسكونها لتأليف السحاب وتذرية الطعام واختلاف الهواء وعصوفها مرة ولينها أخرى والسحاب بنحو وقوفها مثقلات بالماء من غير عماد وصرفها في وقت الغنى عنها بما لو دامت لأهلكت، ولو انقطعت لم يقدر أحد على قطرة منها، وبتفريق المطر وإلا هلك الحرث والنسل، والسفن بتسخير البحر لجريانها وتقدير الريح لها بما لو زاد لغرق، ولو ركد لأهلك، والملائكة تقسم الأمور بأمر ربها، كل ذلك دليل على وجود الصانع الحكيم، والفاطر العليم، القادر الماجد الكريم.
ولما كانوا يكذبون بالوعيد، أكد الجواب بعد التأكيد بنفس القسم فقال: {إنما} أي الذي {توعدون} أي من الوعد للطائع والوعيد للعاصي، وإن لم تروا أسبابه، ولما كان ما توعدوا به لتحقق وقوعه وقربه كأنه موجود يخاطبهم عن نفسه، عبر عن المصدر باسم الفاعل فقال: {لصادق} أي مطابق الإخبار به للواقع، وسترون مطابقته له إذا وقع، وتعلمون أن ذلك الواقع حق ثابت لا خيال لمطابقته للخبر، قال ابن برجان: واعلم أن الله عز وجل ما أقسم بقسم إلا مطابقًا معناه لمعان في المقسم من أجله بسراج منير يهدي به الله تعالى من يشاء، وإنما يعمي عن رؤية ذلك ظواهر إشخاص للمحسوسات، ويصم عن إسماع ندائها ضوضاء المشاهدات، ولولا ذلك لنودوا بها من مكان قريب، وقال البيضاوي: كأنه استدل باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة على اقتداره على البعث.
ولما كان أجل وعيدهم وما يتعلق بالجزاء يوم القيامة وكانوا ينكرونه، قال: {وإن الدين} أي المجازاة لكل أحد بما كسب يوم البعث، والشرع الذي أرسلت به هذا النبي الكريم {لواقع} لابد منه وإن أنكرتم ذلك، فيظهر دينه على الدين كله كما وعد بذلك، ثم نقيم الناس كلهم للحساب.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما ذكر سبحانه المواعيد الأخروية في سورة ق وعظيم تلك الأحوال من لدن قوله: {وجاءت سكرة الموت بالحق} إلى آخر السورة، أتبع سبحانه ذلك بالقسم على وقوعه وصدقه فقال: {والذاريات ذروًا} إلى قوله: {إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع} والدين الجزاء، أي أنهم سيجازون على ما كان منهم ويوفون قسط أعمالهم {فلا تحسبن الله غافلًا عما يعمل الظالمون} {إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا}.
ولما أقسم الله على صدق وعده ووقوع الجزاء، عقب ذلك بتكذيبهم بالجزاء وازدرائهم فقال: {يسألون أيان يوم الدين} ثم ذكر تعالى حال الفريقين وانتهاء الطريقين إلى قوله: {وفي الأرض آيات للموقنين} فوبخ تعالى من لم يعمل فكره ولا بسط نظره فيما أودع سبحانه في العالم من العجائب، وأعقب بذكر إشارات إلى أحوال الأمم وما أعقبهم تكذيبهم، وكل هذا تنبيه لبسط النظر إلى قوله: {ومن كل شيء خلقنا} بقوله: {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} أي إن هذا دأبهم وعادتهم حتى كأنهم تعاهدوا عليه وألقاء بعضهم إلى بعض فقال تعالى: {تواصوا به أم هم قوم طاغون} أي عجبًا لهم في جريهم على التكذيب والفساد في مضمار واحد، ثم قال تعالى: {بل هم قوم طاغون} أي أن علة تكذيبهم هي التي اتحدت فاتحد معلولها، والعلة طغيانهم وإظلام قلوبهم بما سبق {ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها} ثم زاد نبيه عليه السلام أشياء مما ورد على طريقة تخييره عليه السلام في أمرهم من قوله تعالى: {فتول عنهم فما أنت بملوم} ثم أشار تعالى بقوله: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} إلى أن إحراز أجره عليه السلام إنما هو في التذكار والدعاء إلى الله تعالى، ثم ينفع الله بذلك من سبقت له السعادة {إنما يستجيب الذين يسمعون} ثم أخبر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن تكذيبه سينالهم قسط ونصيب مما نال غيرهم من ارتكب مرتكبهم، وسلك مسلكهم، فقال تعالى: {وإن للذين ظلموا ذنوبًا مثل ذنوب أصحابهم} إلى آخر السورة- انتهى.
ولما أخبر سبحانه عن ثبات خبره، أتبعه الإخبار عن وهي كلامهم، فقال مقسمًا عليه لمبالغتهم في تأكيد مضامينه مع التناقض بفعله الجميل وصنعه الجليل، إشارة إلى أنهم لم يتخلقوا من أخلاقه الحسنى بقول ولا فعل: {والسماء ذات الحبك} أي الآيات المحتبكة بطرائق النجوم المحكمة، الحسنة الصنعة، الجيدة الرصف والزينة، حتى كأنها منسوجة، الجميلة الصنعة الجليلة الآثار، الجامعة بين القطع والاختلاط والاتفاق والاختلاف، وأصل الحبك الإحكام في امتداد واطراد- قاله الرازي في اللوامع.
{إنكم} يا معشر قريش {لفي قول} محيط بكم في أمر القرآن والآتي به وجميع أمر دينكم وغيره مما تريدون به إبطال الدين الحق {مختلف} كاختلاف طرائق السماء التي لا تكاد تنتظم، ولا يعرف أولها من آخرها، واختلاف هذه الأشياء المقسم بها من أول السورة واختلاف غاياتها لكنه مع ذلك متدافع، وإن كنتم تجتهدون في تزيينه وتقريبه للأفهام وتحسينه فإنه لا يكاد إذا عرضه الناقد على الفكر النافذ ينضبط بضابط ولا يرتبط برابط، بل تارة تقولون: هذا شعر فيلزمكم وصفه بما تصفون به الشعر من الاتساق بالوزن المجرد والروي المتحد، والعذوبة والرشاقة، وتارة تقولون: هذا سحر فيلزمكم مع الإقرار بالعجز عنه أنه لا حقائق له والواقع أنه لا يتأمله ذو فهم إلا رأى حقائقه أثبت من الجبال، وتارة تقولون: أضغاث أحلام، فيلزمكم أنه لا ينضبط بضابط، ولا يكون له مفهوم يحصل، ولا يعجز أحد عن تلفيق مثله، فقد أبطلتم قولكم: إنه شعر وإنه سحر.
وتارة تقولون: إنه كهانة فيلزمكم أن تعتقدوا منه ما تعتقدون في أقوال الكهان من الإخبار بالمغيبات وإظهار الخبء وفصل الحكم، فأبطلتم ما مضى من قولكم أضغاث أحلام وسحر وشعر، وتارة تقولون، إنه جنون، فقد نقضتم جميع أقوالكم الماضية وناديتم على أنفسكم بالمباهتة، تقولون في الآتي به: إنه شاعر وساحر ومجنون وكاهن وكاذب، وكل قول منها ينقض الآخر، وأنتم تدعون أنكم أصدق الناس وأبعدهم عن عار الكذب، وأنكم أعقل الناس وأنصفهم، فقد تباعد أولًا ما بين أقوالكم، ثم ما بينها وبين أفعالكم، فكان اختلاف طرائق النجوم دالًا على مانع مختار تام العلم كامل القدرة، وكذا اختلاف قولكم على هذا الوجه مع ما لكم من العقول دالّ على قاهر لكم على ذلك، فهما آيتان في الآفاق وفي أنفسكم.
ولما كان هذا الاختلاف مما لا يكاد يصدق لأنه لا يقع فيه عاقل، بين سببه بأنهم مغلوبون عليه بقهر يد القدرة فقال: {يؤفك} أي يصرف بأيسر أمر وأسهله عن سنن الاستقامة، ويقلب من وجهه لقفاه {عنه} أي يصدر صرفه عن هذا القول مجازًا لما يلزمه من عاره، فهو لأجل ذلك يقوله: {من أفك} أي قلبه قلب قاهر أي تبين بهذا الصرف الذي هو أعظم الصرف أنه حكم في الأزل حكمًا ثابتًا جامعًا، فصار لا يصد عنه قول ولا فعل إلا كان مقلوبًا وجهه إلى قفاه لا يمكن أن يأتي منه بشيء على وجهه، فكأنه لا مأفوك سواه لشدة افكه وعجيب أمره.